Saturday, June 25, 2011

رسالة الشيخ على جمعة الى أبناء الأزهر الشريف

د. على جمعة مفتى الجمهورية يكتب: رسالة إلى أبناء الأزهر الشريف

       ٢٣/ ٦/ ٢٠١١
من المهام الأولى لعلماء الأزهر نقل هذا الدين لمن بعدنا بصورة صحيحة، وحتى يتأتى ذلك لابد أن نمتلك الأداة الضرورية اللازمة لفهم آليات التعامل مع «الموروث الإسلامى»، لنستطيع أن ننقله فى إطاره الصحيح الذى وصل إلينا من أسلافنا إلى من يخلفنا، مع ضرورة حفظ التمييز بين الأصلين المنزَّهين (الكتاب والسُّنة)، وسائر التراث الذى اجتهد فى إنتاجه المسلمون من علوم وفكر، وفقه وفتاوى، ورؤى وواقع تاريخى.
لاشك أن هناك فجوة مشهودة بين أجيال الباحثين المعاصرين وهذا الموروث الثمين، فكثيراً ما نقرأ القرآن أو السُّنة أو علوم التراث الإسلامى ولا نفهم دلالات المقروء، فلا نستطيع الاستفادة منها، ومن ثم فإن أول مطلوب هو «الفهم»، فهو الخطوة الأولى لسائر الخطوات، فلا يمكننى نقد هذا الموروث أو تطبيقه دون فهم، وكثيراً ما يتساءل الباحثون عن آليات تطبيق هذا الموروث فى مجالاتهم العلمية والبحثية الحالية، وعن «الحلقة الواصلة» بين الموروث وهذه العلوم الحديثة، فى حين أن المطلوب أولاً - قبل التطبيق - هو «الفهم».
إن تحديد الهدف والخطوات وتمثُّل هذه الخطوات جيداً، هو أمر مطلوب جداً من أجل الوعى والاستفادة.. لكن تشوُّف الباحث إلى ما هو أمام، وتعجُّله قطف الثمار قبل النضج - وربما قبل الزرع والإنبات - هو ما يدفعه إلى نوع من القفز وعدم الاتزان، فأنا - كباحث أو كدارس اطَّلعت على العلوم الحديثة - أريد أن أستفيد مما رأيته أو استشعرته فى الموروث من منهجية ومضمون فى دراستى لهذه العلوم، وهذا - بعد تحقيق «الفهم» - يحتاج إلى عملية أكبر، وهى ما يمكن تسميتها بعملية «التجريد»، ثم تتلوها عملية ثالثة وهى «الاستنباط»، والمقصود بها استنباط المناهج والقواعد والأدوات التى يمكن بها أن نواصل المسيرة ونكمل البنيان، فليس المراد من الاطلاع على هذه العلوم والأفكار وما فيها من منهجيات أن نحاكيها، فتتوقف مسيرة العلم، ونذهب فى رحلة موات، بل أن نستخلص منها ما نحتاج إليه.
إن الموروث - بجملته - عبارة عن مكوّنين: نتاج فكرى، وواقع تاريخى. النتاج الفكرى له «محلٌ» عَمِل الفكر فيه، وهو القرآن والسُّنة مصدرا المعرفة الأساسيان عند المسلمين باعتبارهما وحياً. والنتاج الفكرى له «ثمرة»، وهى ما يخرجه البشر بتفاعلهم مع هذا المحل من رؤى وأفكار وعلوم ومناهج وأحكام وممارسات. إن محور الحضارة الإسلامية الذى بنيت عليه هو (النص): الكتاب والسُّنَّة، فما معنى المحور؟ معنى المحور أن كل العلوم خادمة له، وقد أنشئت لتخدمه، وهو المعيار للتقويم، والإطار المرجعىّ.
قرأ المسلمُ النصَّ، فلما استعصى عليه أمرٌ ما فيه راح يبحث عن وسائل فهمه، فصار هناك المُعجم وظهرت التراكيب والنحو والصرف.. تساءل: هل هذا الكلام معتاد أم معجز؟ ما الذى جعله متميزاً؟ فظهر علم البلاغة.. تساءل: إذا كنت قد فهمت دلالات اللفظ (المفردات والتراكيب)، فماذا عن الدليل والمدلول؟ وبالمثل ظهر علم النقل والتوثيق، وهو علم لم يخرج مثله فى الأمم، وذلك لخدمة الوثوق فى النص، وتوالت التصنيفات بين علوم ذاتية كالتفسير والحديث، وعلوم مضمونية كالتوحيد والفقه، وتقسيمات أخرى هى من نتاج تعامل العقل المسلم مع النص.
فالفقه - مثلاً - من القرآن إجمالاً، والقليل منه هو من القرآن مباشرةً، فهناك نحو مليون ومائتى ألف مسألة فقهية، بينما الآيات أقل من ذلك بكثير من حيث العدد والحجم، إلا أن القرآن العظيم منه الانطلاق، وإليه العودة، وبه التقويم، وله الخدمة، فى علم الفقه وغيره من العلوم التى ورثناها.
الشق الثانى للموروث - الذى يقابل النتاج الفكرى - هو الواقع، وهو يتكون من خمسة عوالم: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الرموز، وعالم الأفكار، وعالم الأحداث.. فما معنى أن النص الذى هو محور الحضارة له دور فى التعامل مع عوالم الواقع؟ إن ذلك يعنى أننى عندما أتعامل مع الواقع أضع على عينى نظارة النص.
إذن الموروث إما مصادر أصلية وإما نتاجاً بشرياً، والواقع هو العوالم الخمسة، وما نريده فى البداية هو الفهم - الفهم الصحيح - وليس النقد أو التجريد أو التطبيق، وعلى ذكر «الفهم الصحيح»، فمع الدعوة للتأمل وتحريك الذهن فى مختلف المسائل، ننبه إلى أن هناك سقفاً للفهم الصحيح ينبغى ألا يتم تجاوزه، وهو يشتمل على خمسة حدود لابد من معرفتها والالتزام بها فى مطالعة التراث:
١- اللغة العربية، التى هى وعاء المنطق العربى المتصل بالفطرة الإسلامية.
٢- الإجماع، الذى ينبغى على الساعى إلى الفهم ألا يـخـرقه أو يتجاهله.
٣- المقاصد الكلية للشريعة، من حفظ الدين والنفس والعِرض أو النسل والعقل والمال.
٤- النموذج المعرفى، وهو ما نسميه العقيدة أو الرؤية الكلية.
٥- القواعد الفقهية أو المبادئ العامة للشريعة، من قبيل: لا ضرر ولا ضرار، لا تزر وازرة وزر أخرى... إلخ.
لابد من ذلك كله حتى نخرج عقليات من أمثال ابن مقلة وابن الهيثم والبيرونى وابن خلدون وابن رشد وغيرهم، ونؤكد أن أهم ما يعنينا استخلاصه فى هذا التراث هو «المناهج» وطرائق التفكير: كيف كانوا يُعملون عقولهم فى واقعهم؟ ولا يهمنا بالضرورة «الموضوعات» أو الجزئيات التفصيلية التى كانوا يفكرون فيها. سأجد أننى أبحث فى المصادر، وطرق البحث وأدواته، وآليات الاحتجاج والاستدلال، وفى شروط الباحث.. تلك الأمور التى أخذها روجر بيكون وجعلها أصولاً للمنهج العلمى الحديث، وهى لا تتجاوز تعريفات الرازى والبيضاوى لعلم أصول الفقه.
إن من يطالع هذا التراث الكنز -اليوم- سوف يُفاجأ بمنهج ضخم وأسئلة جوهرية ربما لا إجابة عنها إلا فى هذا التراث نفسه، مطالعة هذا التراث هى أصل المنهج الأزهرى القويم الذى يجب أن يكون الإطار العام لكل من أراد أن يسلك طريق العلم والتفقُّه.

No comments:

Post a Comment

Blog Archive

About Me

My photo
أحمد فخرانى, جاكرتا الاندونيسى مولدا, القدسى والقاهرى نشأة, الأزهرى منهجا, الشافعى مذهبا, السنّى عقيدة, الصدّيقى سلسلة,الدرقاوى اسنادا, الشاذلى طريقة, النبوى وراثة, المحمدى خليفة, الرحمن عبدا, الرحيم رحمة.

Pages