Friday, January 27, 2012

رُتـَبُ الحِفْظِ عِنـْدَ المُحَدِّثِينَ

رُتـَبُ الحِفْظِ عِنـْدَ المُحَدِّثِينَ

بقلم
المحدِّث العلامة
عبد الله بن الصديق الغماري
رحمه الله تعالى

وأصلها مقال نشر بمجلة دعوة الحق
وقد أثبته في الترجمة التي عملها لنفسه وأسماها
(سبيل التوفيق في ترجمة عبد الله بن الصديق)
بسم الله الرحمن الرحيم

نقل المناوي في أوائل شرح الشمائل، عن المطرزي قال: "لأهل الحديث مراتب:أولها: الطالب، وهو المبتدي.
ثم المحدث، وهو من تحمل روايته واعتنى بدرايته.
ثم الحافظ، وهو من حفظ مائة ألف حديث متناً وإسناداً.
ثم الحجة، وهو من أحاط بثلاثمائة ألف حديث.
ثم الحاكم، وهو من أحاط بجميع الأحاديث المروية" اهـ.
وأهل الحديث لا يعرفون هذه المراتب، ولا يعترفون بها، لأنها تخالف ما اصطلحوا عليه.
فالطالب هو المبتدئ في كل علم، وليس خاصاً بأهل الحديث.
وفي حديث رواه الطبراني بإسناد ضعيف، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((منهومان لا يشبع طالبهما: طالب علم وطالب الدنيا)).
والحجة من مراتب التعديل، لا الحفظ، وهي فوق الثقة، كما نص عليه الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ، وستأتي عبارته بحول الله.
أما الحاكم، فلا علاقة له بالحفظ ولا التعديل، وإنما هو لقب عائلي لبعض الحفاظ والمحدثين، منهم: أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الكرابيسي الحافظ، صاحب كتاب الكُنـَى وغيره من المؤلفات، توفي سنة 378 هـ، قال الذهبي: وهذا هو الحاكم الكبير.
ومنهم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي النيسابوري الحافظ، صاحب كتاب المستدرك وغيره، ويعرف بابن البيع، توفي سنة 405 هـ، وهو تلميذ الحاكم الكبير.
ومنهم: أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حسكان القرشي العامري النيسابوري الحنفي الحافظ، يعرف بابن الحذاء وبالحسكاني، أخذ عن الحاكم صاحب المستدرك، وتوفي بعد سبعين وأربعمائة.
ومنهم: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن الحسن الأسترآباذي المحدث، حدث سنة 432 هـ، ترجم له التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، ولم يذكر تاريخ وفاته.
والعجيب أن المتأخرين تمالؤوا على نقل كلام المطرزي، تقليداً دون تمحيص.
والواقع أن مراتب الحفظ عند أهل الحديث على الوجه الآتي:
مسند، ثم محدث، ثم مفيد، ثم حافظ، ثم أمير المؤمنين في الحديث.

فالمسنِد -بكسر النون- من يعنى بالإسناد من حيث اتصاله أو انقطاعه أو تسلسله بصفة معينة، وإن لم يكن له خبرة بالمتون.
وكان شيخنا العلامة الحسيني الطهطاوي الحنفي مسند هذا العصر بدون منازع، له كتاب "المسعى الحميد إلى بيان وتحرير الأسانيد"، حرر الكلام فيه على الأسانيد الموجودة في نحو أربعمائة ثبت، ونبه على أوهام كثيرة، وقعت في فهرس الفهارس، وكان لا يعرف في المتون كثيراً ولا قليلاً.

والمحدِّث من سمع الكتب الستة والموطأ وسنن الدارمي والدارقطني والبيهقي ومستدرك الحاكم ومسند أحمد، وسمع إلى جانب هذه الكتب ألف جزء حديثي، وحفظ جملة مستكثرة من المتون.
ويكفي عن الحفظ في هذا الوقت أن يراجع الجامع الصغير مرات، حتى تعلق أحاديثه بذهنه، بحيث يستحضر حديثاً منها إذا احتاج إليه، ويشتمل الجامع الصغير على نحو عشرة آلاف حديث، فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع.

والمفيد رتبة استحدثت في القرن الثالث الهجري.
قال الحافظ الخطيب: حدثني محمد بن عبد الله، عن أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب، قال: موسى بن هارون سماني المفيد.
قال الذهبي: فهذه العبارة أول ما استعملت لقباً، في هذا الوقت، قبل الثلاثمائة (1)، والحافظ أعلى من المفيد، في العرف، كما أن الحجة فوق الثقة اهـ.
وممن لقب بالمفيد سوى أبي بكر المذكور:
أبو بكر وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي المؤرخ، روى عن الطبراني وغيره، توفي سنة 382 هـ، اتهمه الخطيب بوضع حديث في فضل أهل الحديث.
قلتُ: لفظ الحديث المشار إليه: (إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر، فيأمر الله جبريل أن يأتيهم فيسألهم وهو أعلم بهم، فيقول: من أنتم ؟ فيقولون: نحن أصحاب الحديث، فيقول الله عز وجل: ادخلوا الجنة على ما كان منكم، طالما كنتم تصلون علي في دار الدنيا)، رواه الخطيب في التاريخ من طريق محمد بن يوسف الرقي: حدثنا الطبراني، ثنا الدبري، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس رفعه به.
ورواه أبو الحسن الروياني في فوائده، عن عبد الله بن جعفر الجبائري، عن محمد بن يوسف الرقي به، لكن قال: عن معمر عن قتادة عن أنس.
ورواه ابن الجوزي في الموضوعات، من طريق الخطيب، وقال: الحمل فيه على الرقي، وقال الذهبي: وضع على الطبراني هذا الحديث.
ورواه الديلمي في مسند الفردوس، والنميري في الأعلام من طريق آخر، فيه محمد بن أحمد بن مالك الإسكندراني، وهو مجهول.
واقتصر الحافظ السخاوي في القول البديع، على تضعيفه من الطريقين، وهو تساهل منه، رحمه الله، فالحديث موضوع كما قال الخطيب وابن الجوزي والذهبي.
ومما يؤكد وضعه نكارة معناه، وروايته من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس.
وممن لقب بالمفيد: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، صاحب معالم السنن وغيره من المصنفات، وهو أحد شيوخ الحاكم صاحب المستدرك، توفي سنة 383 هـ ببلده بست، في أفغانستان.
وأبو سعيد محمد بن علي بن محمد النيسابوري، الخشاب المتوفى سنة 456 هـ.
وأبو منصور عبد المحسن بن محمد بن علي الشيحي السفار، المتوفى سنة 489 هـ.
وأبو الفرج عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف اليوسفي البغدادي، المتوفى سنة 548 هـ.
وأبو علي صدر الدين الحسن بن محمد بن محمد بن محمد التيمي البكري الصوفي، المتوفى سنة 656 هـ.
وشمس الدين علي بن المظفر بن القاسم الربعي الدمشقي المتوفى سنة 656 هـ.
ثم المفيد من جمع شروط المحدث، وتأهل لأن يفيد الطلبة الذين يحضرون مجالس إملاء الحافظ، فيبلغهم ما لم يسمعوه، ويفهمهم ما لم يفهموه، وذلك بأن يعرف العالي والنازل، والبدل والمصافحة والموافقة، مع مشاركة في معرفة العلل.
والأصل فيه ما رواه أبو داود والنسائي، عن رافع بن عمرو قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب النسا بمنى حين ارتفع الضحى، على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه.
وفي الصحيح عن أبي جمرة قال: كنتُ أترجم بين ابن عباس وبين الناس.

والحافظ اختلف في تعريفه، بين مشدد ومخفف.
وأعدل التعريفات فيه أنه من جمع ثلاثة شروط:
حفظ المتون، ولا يقل محفوظه عن عشرين ألف حديث.
حفظ أسانيدها، وتميز صحيحها من سقيمها.
معرفة طبقات الرواة وأحوالهم، طبقة بعد طبقة، بحيث يكون من لا يعرفه أقل ممن يعرفه، حتى إذا قال في راوٍ: لا أعرفه، اعتبر ذلك الراوي من المجهولين.
ويتفاوت الحفاظ بتفاوت كثرة محفوظاتهم وقلتها.
وهذه أمثلة عن ذلك:
قال يعقوب الدورقي: كان عند هشيم عشرون ألف حديث.
وقال يحيى بن معين: كانت كتب ابن المبارك التي حدث بها نحو عشرين ألف حديث.
وقال يزيد بن هارون: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد، ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألفاً، لا أسأل عنها.
وقال أيضاً: سمعت حديث الفتون مرة واحدة فحفظته، وأحفظ عشرين ألفاً، فمن شاء فليدخل فيها حرفاً.
وحديث الفتون طويل، يقع في نحو كراسة.
رواه النسائي في السنن الكبرى، وابن أبي حاتم، والطبري في تفسيريهما، وأبو يعلى في معجمه، كلهم من طريق يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به.
قال ابن كثير: وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس مما أبيح له نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره.
وسمعتُ شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك اهـ.
وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد بعد أن عزاه لأبي يعلى: رجاله رجال الصحيح غير أصبغ بن زيد والقاسم بن أبي أيوب، وهما ثقتان اهـ.
قلتُ: وقع في ترجمة أصبغ من الميزان: راوي حديث القنوت، وكذلك وقع في ترجمة القاسم من تهذيب التهذيب، وهو تصحيف.
وقال داود بن عمرو الضبي: كان إسماعيل بن عياش يحدثنا من حفظه، ما رأيتُ معه كتاباً قط، فقال له عبد الله بن أحمد بن حنبل: أكان يحفظ عشرة آلاف حديث ؟ قال: وعشرة آلاف وعشرة آلاف، فقال له أبي أحمد: هذا مثل وكيع.
وقال حرب الكرماني: أملى علينا سعيد بن منصور نحواً من عشرة آلاف حديث من حفظه.
وقال الحافظ أبو بكر بن أبي داود صاحب السنن: حدثتُ من حفظي بأصبهان بستة وثلاثين ألفاً، ألزموني الوهم في سبعة أحاديث منها، فلما انصرفتُ وجدتُ في كتابي خمسة منها على ما كنت حدثتهم به.
وقال الحافظ أبو حفص بن شاهين: أملى علينا ابن أبي داود، ما رأيتُ في يده كتاباً قط، إنما كان يملي حفظاً، وكان يعقد على المنبر، بعد ما عمي، ويقعد دونه بدرجة ابنه أبو معمر بيده كتاب، فيقول له: حديث كذا، فيسرده من حفظه، حتى يأتي على المجلس.
قرأ علينا يوماً حديث الفتون من حفظه، فقام أبو تمام الزينبي وقال: لله درك، ما رأيتُ أحفظ منك، إلا أن يكون إبراهيم الحربي، فقال: كل ما يحفظه إبراهيم فأنا أحفظه، وأنا أعرف بالنجوم وما كان يعرفها.
وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح.
وسأل رجلٌ أبا زرعة الرازي: إنه حلف بالطلاق إنك تحفظ مائة ألف حديث ؟ فقال: تمسك بامرأتك.
وقال أبو زرعة أيضاً: أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث.
وقال الحافظ أبو العباس بن عقدة: أحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها.
وقال الحافظ أبو بكر بن الجعابي: أحفظ أربعمائة ألف حديث، وأذاكر بستمائة ألف حديث.
وقال أيضاً: دخلت الرقة، وكان لي ثم قمطر من كتب، فجاء غلامي مغموماً، وقال: ضاعت الكتب، فقلتُ: يا بني لا تغتم، فإن فيها مائتي ألف حديث، لا يشكل علي حديث منها، لا إسناده ولا متنه.
ثم الحافظ نوعان:
حافظ على طريقة الفقهاء، كالطحاوي والبيهقي والباجي وابن العربي المعافري والقاضي عياض والنووي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير.
حافظ على طريقة المحدثين، وهم معظم الحفاظ.
والحافظ على طريقة المحدثين أكثر حفظاً، وأوسع رواية، وأعرف بأحوال الرجال وطبقاتهم، وأدرى بقواعد التصحيح والتضعيف، لتمكنه في معرفة العلل وغرائب الأحاديث.

وأمير المؤمنين في الحديث هي الرتبة العليا في الحفظ، لا رتبةَ فوقها.
واستحدثت هذه الرتبة في المائة الثانية للهجرة.
قال الحافظ السيوطي في التدريب: كأن هذا اللقب مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ارحم خلفائي))، قيل: ومن خلفاؤك ؟ قال: ((الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسنتي))، رواه الطبراني وغيره.
قلتُ: هذا الحديث رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل، والطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في شرف أصحاب الحديث، كلهم من طريق أحمد بن عيسى العلوي، أخبرنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس قال: سمعتُ علي بن أبي طالب يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم ارحم خلفائي)) قلنا: يا رسول الله ومن هم ؟ قال: ((الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها الناس)).
أحمد بن عيسى الهاشمي العلوي نقل الذهبي في ترجمته من الميزان عن الدارقطني أنه قال فيه: كذاب، وحكم الذهبي ببطلان هذا الحديث، بعد أن ساقه بإسناد الرامهرمزي.
وقال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: وقد روى الحافظ أبو محمد الرامهرمزي في أول كتاب المحدث الفاصل حديثاً موضوعاً لأحمد بن عيسى، هو المتهم به، وذكر هذا الحديث.
ورواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث من طريق عبد السلام بن عبيد، حدثنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد به.
عبد السلام بن عبيد قال ابن حبان: يسرق الحديث، ويروي الموضوعات.
وسرقة الحديث: أن يعمد الراوي إلى حديث معروف من طريق معين، فيرويه من طريق آخر.
مثاله: روى الليث ويونس عن الزهري، عن أنس حديث (( من كذب علي متعمداً ..)) الحديث، رواه عبد السلام هذا عن سفيان بن عيينة عن الزهري، فحوله من رواية الليث ويونس إلى رواية ابن عيينة، وهذه سرقة.
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة حديث: ((لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين))، سرقه عبد السلام فرواه عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
وعبد السلام هذا روى عنه أبو عوانة في صحيحه، كأنه لم يعرف حاله.
ولحديث الخلفاء طريق آخر، أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث، من طريق أبي الصباح عبد الغفور عن أبي هاشم الرماني، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ألا أدلكم على آية الخلفاء مني ومن أصحابي ومن الأنبياء قبلي ؟ هم حملة القرآن والأحاديث عني وعنهم في الله ولله عز وجل)).
عبد الغفور قال ابن حبان: كان ممن يضع الحديث، وقال ابن عدي: ضعيف منكر الحديث.
ولا شك أن أهل الحديث نواب عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ أحاديثه ونشر سنته، فهم خلفاؤه.
ولهذا سمي بعضهم أمير المؤمنين في الحديث.
كما أن الخلفاء الحكام سموا أمراء المؤمنين لنيابتهم عنه في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحماية بيضة الإسلام، وليس كل عالم أو فاضل أو صاحب رأي يصلح لخلافة الحكم، بل يشترط فيمن يتولى هذا المنصب الخطير، شروط مفصلة في كتب الفقه الإسلامي، كذلك ليس كل حافظ يستحق لقب أمير المؤمنين في الحديث، وإنما يستحقه من توفرت فيه الشروط الآتية:
1- شدة الإتقان والضبط بنوعيه: ضبط صدر، وضبط كتاب.
2- التبريز في العلل، أو الرجال.
3- أن يؤلف كتاباً له قيمته العلمية، كبير الأثر في موضوعه، أو يتخرج به حفاظ مهرة.
ولعزة اجتماع هذه الشروط في شخص لم ينل هذا اللقب من الحفاظ على كثرتهم إلا نفر قليل منهم، لا يتجاوز عددهم عشرين نفساً.

منهم الإمام مالك بن أنس، قال يحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن معين: مالك أمير المؤمنين في الحديث، على أنه لم يكن واسع الحفظ، لأنه لم يرحل إلى البلدان والأقطار، كما رحل غيره من الحفاظ، ولم يبارح المدينة المنورة إلا للحج ثم رجع، وبسبب ذلك فاته حديث كثير.
لكنَّه شديد الإتقان، بالغ التحري، مبرزاً في نقد الرجال.
قال الترمذي في العلل: سمعت إسحاق بن موسى الأنصاري قال: سمعتُ معن بن عيسى يقول: كان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الياء والتاء، ونحو هذا.
وروي أيضاً عن علي بن المديني قال: قال يحيى بن سعيد القطان: ما في القوم أصح حديثاً من مالك بن أنس، كان مالك إماماً في الحديث.
وقال علي بن المديني عن سفيان بن عيينة: ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم.
وقال يحيى بن معين: كل من روى عنه مالك فهو ثقة إلا عبد الكريم.
قلتُ: عبد الكريم هذا، هو ابن أبي المخارق –بضم الميم-، أبو أمية البصري المعلم.
قال ابن عبد البر: لا يختلفون في ضعفه، غرَّ مالكاً منه سمته، ولم يكن من أهل بلده فيعرفه، ولم يخرج عنه حكماً، بل ترغيباً وفضلاً اهـ.
وقال الحافظ ابن سيد الناس في شرح الترمذي: لكن لم يخرج عنه مالك إلا الثابت من غير طريقه، ((إلا لم تستح فاصنع ما شئت)) ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وقد اعتذر لما تبين له أمره، وقال: غرني بكثرة بكائه في المسجد اهـ.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلتُ لأبي: من أثبت أصحاب الزهري؟ قال: مالك أثبت في كل شيء.
وقال ابن حبان: كان مالك أول من انتقد الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة اهـ.
وكتابه الموطأ من كتب السنة النافعة، مدحه الإمام الشافعي بكلمته المعروفة: ما على ظهر الأرض بعد كتاب الله أكثر صواباً من موطأ مالك.
وأثنى عليه غيره من العلماء ثناءاً كبيراً، لا حاجة إلى الإطالة بذكره، لشهرته وانتشاره في شروح الموطأ وغيرها من كتب السنة، ولولا ما فيه من المرسلات والبلاغات ما تقدم عليه الصحيحان ولا غيرهما.
ولم يقدره المالكية حق قدره، حيث قدموا عليه المدونة عند التعارض(2) ، مع أن القواعد الأصولية والحديثية توجب تقديمه لأمور:
1- أن الموطأ كتبه الإمام بيده، ونقحه في مدى أربعين سنة، والمدونة ليست كذلك، لأنه لم يكتبها ولم ينقحها.
2- أن الموطأ رواه عن الإمام عدة مئات من العلماء، فهو منقول بالتواتر، والمدونة ليست كذلك، بل تفرد بها ابن القاسم.
3- أن من جملة رواة الموطأ أصحاب مالك المدنيين، وهم الذين لازموه إلى وفاته، وابن القاسم الذي بنيت المدونة على رواياته فارق مالكاً قبل مماته بعشرين سنة، والملازم للشيخ مقدم على المفارق له.
4- أن أقوال الإمام في الموطأ مصحوبة بدليلها من آية أو حديث أو أثر، والأقوال المنسوبة إليه في المدونة عارية عن الدليل.
ولتفصيل هذا البحث موضع غير هذا.

ومنهم إمام الحفاظ، وجبل العلم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صاحب الصحيح.
قال عنه شيخه علي بن المديني: ما رأى مثل نفسه.
وقال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري.
كان واسع الحفظ والرواية، شديد الإتقان، مبرزاً في علم العلل.
قال محمد بن حاتم وراق البخاري: سمعتُ حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان البخاري يختلف معنا إلى السماع، وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أياماً، فكناً نقول له، فقال: إنكما قد أكثرتما عليّ، فاعرضا عليَّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشرة ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم ما كتبنا من حفظه، فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
وقال الحافظ أحمد بن نصر الخفاف: محمد بن إسماعيل أعلم في الحديث من أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، بعشرين درجة.
وقال الترمذي: لم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد، أعلم من محمد بن إسماعيل.
وكتابه الجامع الصحيح أجل كتب الإسلام، وأصحها بعد القرآن، أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، وأجله العلماء الفحول، له عند الحفاظ هيبة، وفي قلوبهم رهبة.
ذكر الحافظ الذهبي في الميزان حديثاً في الجامع الصحيح، تكلم في راويه وقال: لولا هيبة الجامع الصحيح لعددته من منكرات خالد.
وقال الحافظ أبو الحسن بن المفضل المالكي، شيخ المنذري: الراوي إذا احتج به الشيخان أو أحدهما فقد قفز القنطرة.
على أن مسلماً تلميذ البخاري وخريجه يعترف بفضله، ويغترف من فيض علمه، حتى قال الدارقطني: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء.
وروى الحاكم في تاريخ نيسابور عن أبي حامد أحمد بن حمدون قال: سمعتُ مسلم بن الحجاج، وجاء إلى البخاري، فقبَّل ما بين عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين، ويا طبيب الحديث في علله.
ثم سأله عن حديث رواه عنه في كفارة المجلس، فأجابه البخاري عنه وبيَّن علته.
وكتابه التاريخ الكبير يقول عنه أبو أحمد الحاكم: كتاب لم يسبق إليه، ومن ألَّف بعده شيئاً من التاريخ أو الأسماء أو الكنى لم يستغن عنه، فمنهم من نسبه إلى نفسه، ومنهم من حكاه عنه، فالله يرحمه، فإنه الذي أصَّل الأصول.

ومنهم الإمام الحافظ المتقن أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني.
قال الحاكم: صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والورع، وإماماً في القراء والنحويين، أقمتُ ببغداد أربعة أشهر، وكثر اجتماعنا، فصادفته فوق ما وصف لي، وسألته عن العلل والشيوخ، وله مؤلفات يطول ذكرها، فأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله.
وقال الخطيب: كان الدارقطني فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر، والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرواة، مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد وسلامة المذهب.
وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي: أحسن الناس كلاما ًعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، وعلي بن عمر الدارقطني في وقته.
وقال الحافظ البرقاني: كان الدارقطني يملي على العلل من حفظه، وأنا الذي جمعتها، وقرأها الناس من نسختي.
قال الذهبي: وإذا شئتَ أن تتبين براعة هذا الإمام الفرد، فطالع كتاب العلل له، فإنك تندهش ويطول تعجبك.

ومنهم شعبة، ومحمد بن إسحاق، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن يحيى الذهلي، وإسحاق بن راهويه، والحافظ ابن حجر، وهو ختامهم، لم يأتِ بعده من نال هذه الرتبة، وإن كان في تلامذته حفاظ كالسخاوي والديمي والسيوطي، لكنه لم يدركه وإنما تتلمذ على كتبه وانتفع بها كثيراً، وهو يعتبر خاتمة الحفاظ بالمعنى المصطلح عليه عند أهل الحديث، ومن وصف بعده بالحافظ كالسيد مرتضى الزبيدي شارح الإحياء فذلك على سبيل التوسع في العبارة.
وكان صديقنا العلامة المرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي يصف ابن طولون الحنفي بالحافظ، وناقشتُه في ذلك فقال: إن مروياته كثيرة.
وهذه مغالطة؛ لأن كثرة المرويات إنما تعتبر في الحافظ بشرط أن تكون مسموعة له، ومرويات المتأخرين كابن طولون إنما هي بالإجازة، والغرض منها بقاء سلسلة الإسناد، والتبرك برجال السلسلة، كما قال الحافظ السخاوي: إنه لبس الخرقة الصوفية تجاه الكعبة المشرفة تبركاً برجالها الصالحين، وإن كان يعتقد أن سندها منقطع.
ولما كنتُ أدرس العلم بجامعة القرويين أعاد الله مجدها، علمتُ أن رجلاً عامياً يروي بالإجازة عن أبيه عن جده عن السيد مرتضى، فذهبتُ إليه واستجزتُه فأجاز لي، مع أن لي رواية عن السيد مرتضى بواسطة شيوخ كثيرين، منهم بالمغرب شقيقي أبو الفيض، والشيخ عبد الحفيظ الفاسي، والشيخ المكي البطاوري، والشيخ فتح الله البناني، رحمهم الله وأكرم مثواهم.

طَـنْجَـة
عبد الله بن الصديق

No comments:

Post a Comment

About Me

My photo
أحمد فخرانى, جاكرتا الاندونيسى مولدا, القدسى والقاهرى نشأة, الأزهرى منهجا, الشافعى مذهبا, السنّى عقيدة, الصدّيقى سلسلة,الدرقاوى اسنادا, الشاذلى طريقة, النبوى وراثة, المحمدى خليفة, الرحمن عبدا, الرحيم رحمة.

Pages