Thursday, October 27, 2011

الإحياء الكبير لمعالم المنهج الأزهري المنير

 الإحياء الكبير لمعالم المنهج الأزهري المنير

لسيدي الشيخ العلامة أسامة السيد محمود الأزهري



بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام علي سيدنا محمد ,المخصوص بجوامع الكلم ,و مجامع الحكم , سيد الأولين والأخرين ,وخاتم النبيين والمرسلين , ورحمة الله تعالي للعاملين , اللهم صل وسلم وبارك عليه , وعلي آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين

أما بعد ...

فقد قامت بحمل أمانة هذا الدين عدة مدارس , كتب الله تعالي لها القبول , وتلقتها الأمة بالإقرار , حتي قامت تلك المدارس بخدمه دين الله تعالي وتعليمه قرونا طويلة , فصارت تلك المدارس عيونا ترى بها الأمة المحمدية الأحداث و المناهج , و تصدر الأمة من خلالها الرأي فيما يقبل و يرد .

و كان علي رأس تلك المدارس : ( الجامع الأزهر الشريف ), رفع الله تعالي مناره و أعلي مقداره , فقد أمد الأمة علي مدي قرون بأكابر الأئمة و العلماء , و حفظت لهم المواقف الجليلة , و سرت منه أنوار العلم و المعرفة والهداية إلي الأمة كلها في المشارق و المغارب.

و قد تأملت المنهج الأزهري , من أين ينبع , و مم يتكون , حتي استخرجت من خلال تأمل طبقة أعيانه و علمائه , و علومه و كتبه , و أثره في الناس عبر القرون, عددا من السمات و الخصائص و المكونات , التي كانت بمثابة الروح السارية في نشاط علمائه , وفي مؤلفاتهم و مواقفهم , فأحببت أن أجرد تلك المكونات هنا , حتي يسهل حفظها علي طلبة العلم , و حتي تكون معيارا يفرقون به بين المناهج المستقيمة , و بين غيرها, و علي الله الاعتماد و نسأله سبحانه التوفيق.


من وراء تلك المكونات , تأصيل و استدلالات , و أمثلة و نماذج , و كيفيات للتطبيق , لا تتسع لها هذه العجالة , و لعل الله تعالي أن يعين علي تفصيل الكلام علي كل واحد من تلك المكونات , في كتاب أو عدد من الكتب .

و عند التأمل نجد أن تلك المكونات بعينها شائعة و سارية و حاضرة في مناهج المدارس العلمية الكبري في المشرق و المغرب, مثل جامع الزيتونة في تونس , و المدرسة العثمانية في طرابلس الغرب , و جامع القرويين في فاس , و الجامع الأموي في دمشق , و جامع الفاتح في استانبول , و المدارس العلمية الكبري في حضرموت , وصنعاء و الهند و شنقيط , وغيرها , مع المدارس الفرعية المنتشرة , التي تفرعت و انبثقت من تلك المدارس.

و المقصود هنا هو التذكير بتلك الأصول , فإنها معايير للمعرفة أردت لها أن تكون هنا بمثابة المتن الذي يحفظه طالب العلم , فيحسن فهم العلم , و يمضي فيه علي بصيرة.



المكون الأول : اتصال سنده رواية و دراية و تزكية :



فمن خصائص المنهج الأزهري أن علومه و معارفه متوارثة منقولة , متصلة الإسناد يتلقاها كل جيل عن الجيل الذي قبله , بإسناد موصول و فهم متسلسل و لا يتصدر أحد من أبناء ذلك المنهج إلا بعد التلقي و الصحبة الطويلة للعلماء , إلي أن يقع منهم الإذن و الإجازة له بالرواية و بالتدريس و التأليف و تعليم العلم و إذا سألت أحدهم عن مشايخه ذكر لك عددا منهم , و إذا سألته: كم صحبت شيخك أو شيوخك ؟ ذكر لك أنه صحبهم زمانا طويلا , حتي فهم و وعي عنهم منهج الفهم , و مداخل المعرفة.

بخلاف المناهج الأخري فإنها مقطوعة مبتورة , يتصدر فيها أحدهم دون مصاحبة للعلماء , و إذا سألت أحدهم : كم صحبت شيخك ؟؟ ذكر لك أنه لقيه مرة , أو صحبه ساعات معدودات , فآني يتحصل له العلم و آني يوثق بفهمه؟



المكون الثاني : العناية بتحصيل علوم الآلة :



فهو منهج يعتني بتربية أبنائه علي الإلمام و الاستيعاب و التضلع من علوم الآلة من النحو و الصرف و الاشتقاق و البلاغة بفنونها و أصول الفقه و علوم الحديث و غير ذلك من العلوم التي تعين المتعلم وتؤهله و تمكنه من الخوض في فهم الكتاب و السنة عن معرفة و دراية و بصيرة مع السير في تلك العلوم علي منهج معتمد يرتقي به الطالب من المقدمات إلي الدقائق.

و كأن المكون الأول و الذي هو طول الزمان في مرافقة العلماء قد نتج عنه المكون الثاني , حيث أثمرت المصاحبة الطويلة تلقينا للعلوم و نقلا للفهوم؟



المكون الثالث : الإلمام و الإحاطة بمقاصد الشريعة :



و قد نتج من طول مصاحبة العلماء و من تحصيل علوم الآلة أن تفتحت البصيرة علي إدراك مقاصد الشرع الشريف , و أن دين الله تعالي جاء من أجل تحقيق عبادة الله جل شأنه و تزكية النفس و تطهيرها و عمارة الأرض و هداية الأمم و وراثة النبييين و بناء الإنسان علي الربانية و البصيرة و الإنابة إلي الدار الآخرة و تحصيل مكارم الأخلاق و بناء الحضارة و صناعة النهضة , حتي تكون الأمة المحمدية رحمة للعالمين , كما كان النبي صلي الله عليه و سلم رحمة للعالمين.

و عندما يحصل لطلبة العلم حظ من إدراك مقاصد الشريعة فإن فهمه لدين الله يتسع و نظره في الفروع الفقهية والمسائل الجزئية يستنير و يخرج من التشنج و الغلظة و يعلم الجاهل و المخالف برفق و يتخلق بالخلق النبوي العظيم.

و أما المناهج الأخري فإنها لا تعرف مقاصد الشريعة , و لا تدريها و لا يرد شئ من ذكر مقاصد الشريعة في كلامها و لا يظهر في فهمها و تطبيقاتها

المكون الرابع : تنزيل القرآن الكريم علي مواضعه :



فإنه ينتج من ملازمة العلماء و من معرفة علوم الآلة , و من الإلمام بمقاصد الشريعة أثر مهم جدا و هو أن يتمكن صاحب ذلك المنهج من قراءة القرآن فينزل آياته الكريمة علي مواضعها فلا ينطلق إلي آية نزلت في الكافرين فينزلها علي المؤمنين و لا لآية نزلت في المؤمنين فينزلها علي االكافرين و لا ينطلق لآية نزلت في أمر عام فينزلها علي خاص و لا لآية نزلت في خاص فينزلها علي عام و هكذا , بل يكون شأنه حسن الفهم للقرآن و حسن تنزيل القرآن علي الواقع دون لبس أو اشتباه , بخلاف عدد من المناهج التي تخوض في فهم القرآن دون أدني بصيرة فتنتج فهما مشوها.



المكون الخامس : تعظيم شأن الأمة المحمدية :



و ينتج من كل ما سبق أن طالب العلم يدرك عظمة شأن الأمة المحمدية , و أنها وعاء الإسلام و أنها أمة علم و هداية و مرحمة و وراثة للنبيين و أنها أمة بلاغ عن الله , و أنها مؤتمنة علي الشرع الشريف و أن لها وظيفة بين الأمم و أن وظيفتها هي الهداية و يبليغ الشرع إلي الأمم و أنها ينبغي أن تشارك في صناعة ثقافة العالم مشاركة مؤثرة لافتة للنظر بحيث تكون الأمة دالة علي الله بعلومها و فنونها و آدابها و قيمها و معارفها في مجالات العلوم المختلفة الإنسانية و التجريبية و العقلية و غيرها.

فإذا أدرك الإنسان ذلك عظم شأن الأمة و لم يعتد عليها بتفسيق و لا تشريك و لا تبديع و لا بغضاء و لا شحناء للمسلمين.

و قد ظل المنهج الأزهري يعلم الناس ذلك و يستوعب الوافدين من مختلف الأقطار و الأمصار و لا يصدر عنه تحامل و لا تفسيق بل يفيض علما و هداية.





المكون السادس : حمل هم الهداية العامة:



فإذا أحاط طالب العلم بذلك كله التفت إلي أن مخاطبة العالمين بمحاسن الشرع الشريف من أوجب الواجبات , وأن المنهج النبوي الشريف كان مفعما بالحرص علي هداية الخلائق أجمعين و إيصال أنوار الهداية إلي كل إنسان مع كمال الحرص و الشفقة علي الخلق و الرحمة بهم , فمن أهم سمات المنهج الأزهري أن يغرس في نفوس أبنائه هذا المعني الجليل , بخلاف المناهج الأخري التي ليس في خطابها أي التفات إلي حقوق الأمم علينا.



المكون السابع : المكونات الكاملة للعلم :



فإن المنهج الأزهري ظل علي مدي قرون طويلة و هو يربي أبنائه علي أن العلم مركب من ثلاثة أمور , أولها : المصادر و الأدلة , من الكتاب و السنة و الإجماع و القياس , ثانيها المنهج المعتمد و المنضبط في فهم النصوص , القائم بالتبحر و التخصص في علوم الشريعة , فالمصادر وحدها لا تصنع العلم و لا الهداية , حتي يصحبها منهج معتمد في الفهم , يقوم به شخص مؤهل.

أما المناهج الأخري فقد مزقت العلم و جعلته أشلاء و صار الواحد منهم لا يفهم من العلم إلا كلمة الدليل دون معرفة بوجه الدلالة و لا بكيفية جمع الأدلة الواردة في كل مسألة ثم كيفية مزجها و تركيبها ثم كيفية فهمها و تحليلها مع مراعاة حال الشخص القائم بالفهم , و التثبت من أن مواهبه و ملكاته و قدراته مواتية لكل ذلك.

كما أنه من المكونات الكاملة للعلم أن يجمع صاحبه بين العلوم النقلية و العلوم العقلية حتي يبصر بعينين و يقتدر علي التواصل و الفهم و الاستيعاب للنماذج المعرفية التي تتكون منها ثقافة العالم , فيستطيع توصيل معالم هذا الدين إلي العالمين.



المكون الثامن : الاستفادة من تراث الأمة و الانفتاح عليه و التواصل معه و البناء عليه :



فإن من أهم خصائص المنهج الأزهري أنه منهج مستوعب لتراث الأمة في العلوم و المجالات المختلفة متواصل مع ذلك التراث يعرف له أصالته و قيمته , و يعرف كيف ينتقي منه كل مفيد و جليل , و يعرف كيف يبني عليه و كيف يضيف إليه بخلاف عدد من المناهج الأخري التي تصنع قطيعة و هجرا و تضليلا لتراث أمة الإسلام.





فهذه ثمانية من المكونات الجليلة جاءت علي عدد أبواب الجنة , لعل الله تعالي أن يفتح بها أبواب الفهم و العلم و البصيرة , و انظر إلي مقدار ما يملأ الصدر من السعة و الرفق إذا ما امتزجت فيه تلك المكونات و إلي مقدار ما يعمر به العقل من مناهج الهداية و مسالك الربانية إذا تحقق بتلك المكونات واتصف بتلك الصفات.



و قد أضيف إلي تلك المكونات معلم مهم مركب من عدة أمور , ألا و هو أن الأزهر الشريف قد اختصه الله تعالي بالمركزية , فهو في موقع وسط بين المشرق و المغرب , و الشمال و الجنوب , فعبرت عليه وفود أمة الإسلام من المشارق و المغاربة , فترتب علي ذلك أثر مهم , ألا و هو اتساع دائرة العلم فيه , فقد جلس للتدريس فيه النبغاء و الأفذاذ من علماء المشرق و المغرب , فتنقحت بذلك طرائق التعليم في الأزهر , و اتسعت آفاقه فترتب علي ذلك أثر مهم ألا و هو استيعاب الآخر إذ وفد إلي الأزهر الشريف الدارسون من أهل الإسلام كما هو مشهور كما نزل فيه الدارسون من غير المسلمين , فاستوعبهم علماء الأزهر الشريف , و أقرأوهم العلم , كما وقع للعلامة الجبرتي الأب و غيره فترتب علي ذلك أثر مهم جدا ألا و هو اقتدار الأزهر الشريف علي رصد التغيرات الواقعة في عوالم الأشخاص و الأحداث و الأفكار و الأشياء , فكان أكثر إدراكا للواقع و إلماما بالتغير الطارئ علي المحل الذي تتنزل عليه الأحكام الفقهية , مما يتغير الحكم الشرعي بإزائه فترتب علي كل ذلك أثر مهم ألا و هو : الاختيار الفقهي , الذي أبرز به علماء الأزهر الشريف الكيفية التفصيلية التي وسع بها الشرع الشريف أحوال المكلفين أجمعين , و كل ذلك يحتاج إلي تفصيل و تمثيل كما سبق.



كما أن امتزاج المكونات السابقة علي النحو المذكور يفضي إلي مقصد كلي جليل هو في الحقيقة غاية الغايات ألا وهو أنه تصب صاحبها في المعين النبوي حتي يقترب صاحب هذا المنهج شيئا فشيئا من المنهج النبوي المحمدي الكريم , وراثة و تخلقا و محبة و اتساعا و ربانية و فهما عن الله و حرصا علي الهداية العامة للخلق أجمعين.

و في هذا القدر كفاية , لمن أراد الهداية , و الله تعالي أعلي و أعلم و أجل و أكرم و صلي الله علي سيدنا محمد و علي آله و صحبه وسلم .


No comments:

Post a Comment

About Me

My photo
أحمد فخرانى, جاكرتا الاندونيسى مولدا, القدسى والقاهرى نشأة, الأزهرى منهجا, الشافعى مذهبا, السنّى عقيدة, الصدّيقى سلسلة,الدرقاوى اسنادا, الشاذلى طريقة, النبوى وراثة, المحمدى خليفة, الرحمن عبدا, الرحيم رحمة.

Pages